العراق:
يعتبر العراق أهم الأوراق السياسية التي يمسك بها الإيرانيون بقوة؛ فمنذ سقوط بغداد في يد الأمريكيين ظهر التحالف الإيراني الأمريكي جلياً داخل العراق، من خلال تحالف واشنطن مع الأحزاب الشيعية الرافضية التي تدين بالولاء لإيران، والتي تمسك بزمام الحكم في العراق اليوم، وقد استغلت إيران هذا التحالف في تعزيز حضورها وتقوية نفوذها في العراق عن طريق الميليشيات الشيعية أو ما يسمى بـ (فرق الموت) التي دأبت على قتل وتعذيب السنة وتهجيرهم للانفراد بالسلطة والنفوذ داخل العراق؛ وتنبئ الأحداث الجارية في العراق عن مدى نفوذ هذه الميليشيات ومدى تغلغـلها داخل أجهزة ومفاصل الدولة في عراق اليوم.
وعلى الرغم من انزعاج الأمريكيين الشديد من تزايد النفوذ الإيراني من خلال هذه الميليشيات، غير أن الأمريكيين ليس لديهم الكثير مما يمكنهم فعله إزاء هذه الميليشيات؛ فشراسة المقاومة العراقية السنية التي قلبت كل الحسابات والتوقعات، والحضور القوي لتنظيم القاعدة فيها والذي يرفض بدوره أي حوار أو مهادنة مع الأمريكيين، ومن ثَم عدم قدرة الأمريكيين على إقامة نظام سياسي قائم على التوازن الطائفي في داخل العراق، يعمل هذا النظام على الحد من النفوذ الإيراني ويكون ذا رغبة جامحة في التصدي للمقاومة العراقية السنية أو ما يسميه الأمريكيون بالإرهاب، كل هذا سيُبقي الأمريكيين في حاجة ماسة لخدمات الأحزاب الرافضية وميليشياتها، للتصدي للمقاومة العراقية السنية التي تدك معاقل الأمريكيين؛ حيث تتألف المؤسسة العسكرية والأمنية في العراق اليوم من عناصر هذه الميليشيات، كما أن ضربة عسكرية أمريكية لإيران قد تخلق تشققات كبيرة في التحالف الشيعي الأمريكي في العراق وقد تنهيه، وهو ما قد يخلق للأمريكيين الكثير من المشاكل في العراق، وما سيزيد من تعقيدات الوضع العراقي المعقد أصلاً.
ويبدو أن الأمريكيين كانوا على اقتناع بأن إقامة توازن سياسي طائفي في داخل العراق هو السبيل الأوحد لاحتواء النفوذ الإيراني في ظل الأوضاع الداخلية التي يمر بها العراق والأوضاع الإقليمية، ولكن هذا التوازن يصطدم بمعارضة القيادات السنية الحقيقية والمؤثرة في الشارع السني على أي مشاركة في العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والجارية في ظل الاحتلال، كما تتزايد الصعوبات أمام إمكانية إقامة هذا التوازن، وتتضاءل فيه الآمال مع مرور كل يوم في ظل العنف الطائفي الذي تشنه ميليشيات الموت الرافضية والذي ما فتئ يُلحِق بالغ الضرر بالتركيبة الطائفية في العراق لصالح النفوذ الإيراني وعملائه من الروافض.
وتأتي الرغبة الأمريكية في التقارب مع البعثيين والتي يعبر عنها قرار الحكومة العراقية بدعوة أفراد وضباط الجيش السابق للانضمام إلى الجيش الجديد في إطار مساعي واشنطن اليائسة من إقامة هذا التوازن، ولكن هذه الرغبة جاءت متأخرة جداً؛ فقد بات من الصعب على الأمريكيين استئصال هذه الميليشيات التي باتت موجودة وبقوة في كل مفاصل الدولة في العراق، وهذا ما قد يدفع واشنطن إلى الخضوع للأصوات التي تدعو لفتح حوار مباشر مع طهران في إطار حل شامل للملف العراقي.
وهنا تدرك واشنطن أن حلاً شاملاً للملف العراقي يقوم على فتح حوار مع إيران سيفضي حتماً إلى عقد صفقة معها، وحتماً لن يكون ملفها النووي بمنأى عن هذه الصفقة، وهذا ما يعني أن مثل هذا الحوار سيحقق الكثير من المكاسب للإيرانيين، وسيكون في مصلحة ملفهم النووي، وهذا ما ترفضه واشنطن في هذه المرحلة.
أما المؤتمر الذي عقد في بغداد والذي جمع بين الامريكيين والإيرانيين والسوريين فلا يعدو أن يكون محاولة أمريكية للالتفاف على السياسات الإيرانية بتوريطها في التزامات أمنية مشتركة داخل العراق، كما يعد المؤتمر فرصة للأمريكيين لمعرفة الطرح الإيراني في الحوار فيما لو أرغمت واشنطن على التحاور مع إيران في المستقبل بشكل جاد.
وإذا استطاعت واشنطن في هذه المرحلة احتواء النفوذ الإيراني في العراق بـإقامة تـوازن سياسـي طائفـي هنـاك، أو استطاعت الخروج من العراق دون اللجوء إلى الحوار مع إيران، فإن إيران ستفقد بذلك ورقة سياسية مهمة لطالما استخدمتها ببراعة في مواجهة الضغوط الغربية بشأن ملفها النووي، وهو ما يخيف الإيرانيين كثيراً؛ ولهذا فإن إيران ستعمل على إثارة الطائفية وافتعال الأزمات وتازيم الوضع الأمني لإجهاض أي حلول من شأنها أن تنهي التورط الأمريكي في العراق سواء كانت هذه الحلول لصالح الشعب العراقي أو لصالح الأمريكيين، وستعمل على توسيع نفوذها في العراق عن طريق الميليشيات وفرق الموت الشيعية، وستعمل على إجهاض أي تحركات أمريكية من شـأنها إقامة توازن طائفي يحد من النفوذ الإيراني في العراق؛ وذلك بالاستمرار في تصفية القيادات السنية القادرة على تحقيق مثل هذا التوازن، ولعل مذكرة الاعتقال والجلب التي أصدرتها الداخلية العراقية في حق الشيخ حارث الضاري تكشف عن مدى خوف الإيرانيين من سقوط الورقة العراقية من أيديهم، وتكشف أيضاً عن مدى رغبتهم الجامحة في تصفية الخصوم حتى خارج العراق.
لبنان: