ردم البوابة: بعد حفر أساس السد تحت الأرض، فمن المؤكد أنه سيبلغ إلى أصول مدخل "يأجوج ومأجوج"، باعتباره بئر أو حفرة ممتدة تحت الأرض يعبرون من خلالها إلى سطحها، وحينها بدأ "ذو القرنين" بسد المدخل الذي يخرج منه "يأجوج ومأجوج"، وهذا من قوله تعالى: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف: 95]. فسد الباب عليهم بزبر الحديد ثم صب فوقه النحاس، حتى امتلأت الحفر عن آخرها، وساواه بقاع الحفرة العميقة، فتسطح قاع الحفرة تماما، وبهذا يكون قد تم عمل الردم.
في لسان العرب: (ردم: الردم: سدك بابا كله أو ثلمة أو مدخلا أو نحو ذلك. يقال: ردم الباب والثلمة ونحوهما يردمه، بالكسر، ردما سده، وقيل: الردم أكثر من السد لأن الردم ما جعل بعضه على بعض).
مرحلة الردم هذه استعان فيها بالقوة البشرية، ولم يقتصر اعتماده في تنفيذها على استخدم شياطين الجن، لقوله: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ)، أي القوة البشرية، وطلبه المعونة منهم ليس عن عجز منه أو من شياطين الجن، إنما من الواضح أن مرحلة الردم كانت من أخطر المراحل على الإنس من قبل قوم "يأجوج ومأجوج"، فبكل تأكيد لم يسلموا من إفسادهم في الأرض من قبل، وبالتالي لن يسلموا من اعتداءهم إن هم حاولوا أن يسدوا عليهم آخر منفذ لهم إلى سطح الأرض، وعالم الإنس.
لذلك ففي هذه المرحلة، كان على "ذو القرنين" مسؤولية التفرغ لتأمين باب "يأجوج ومأجوج" ضد أي محاولة منهم للاعتداء على العاملين في ردم البوابة، حتى يستطيعوا إتمام عملهم بدون التعرض لأية مخاطر. وفي واقع الأمر أن من ذهبوا إليه يشكون إفسادهم في الأرض، لن يستطيعوا الاقتراب منهم لردم الباب عليهم ما لم يتم تأمينهم، ولو كان لهم قبل بقوم "يأجوج ومأجوج" لتكفلوا بهم ولاستغنوا عن الاستعانة به. فكان لزاما الاعتماد على رجل اختصه بالقدرة على التصدي لهم بصفتهم من جملة شياطين الجن، وكما هو معلوم وثابت بصريح النص القرآني، أن سليمان عليه السلام هو من اختصه الله بتسخير شياطين الجن له، قال تعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) [ص: 36، 38].
لم تكن لدى شياطين الجن، و"يأجوج ومأجوج"، القدرة على معصية أمره، وإلا تعرضوا لأشد العذاب، قال تعالى: (وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) [سبأ: 12]. لذلك فتأمين مهمة ردم السد ضد عدوان قوم "يأجوج ومأجوج"، كان أهم دور في عملية تشييد السد، وبدون تأمين العاملين لكان بناء السد ضربا من المحال.
لاحظ أنه بعد نزول المسيح عليه السلام، سيأمره الله تعالى بتحريز عباده إلى الطور، حيث لا قبل للبشر حينها بقتال "يأجوج ومأجوج"، فمن حديث النواس بن سمعان الكلابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عبادا لي، لا يدان لأحد بقتالهم . فحرز عبادي إلى الطور). فبالرغم من أن عيسى عليه السلام نبي مرسل، إلا أنه لم يؤتى خصوصية التصدي لهؤلاء القوم من شياطين الجن، بل أمره ربه بالتحرز منهم. فلو كان "ذو القرنين" ملكا ونبيا فقط، لما استطاع مواجهتهم وبناء السد، ولكن لابد أنه كان ملك نبي اختصه الله بخصوصية التصدي للجن، وهذا ما يقطع بأن "ذي القرنين" هو نبي الله الملك سليمان عليه السلام، فلم يختص الله أحد من البشر غيره بتسخير شياطين الجن.
في دعاء جامع ضد اعتداء شياطين الجن، علمه جبريل عليه السلام لنبينا صلى الله عليه وسلم، ثبت فيه نصا الاستعاذة بالله تبارك وتعالى، من شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، أي من شر ذرأ في الأرض من شياطين، ومن شر ما يخرج منها من شياطين الجن، أي أن باطن الأرض مأهولة بشياطين الجن. فمن حديث عبد الرحمن بن حنيش التميمي، وحسنه شيخنا الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة:
جاءت الشياطين إلى رسول الله من الأودية، وتحدرت عليه من الجبال، و فيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله، قال: فرعب، قال جعفر: أحسبه قال: جعل يتأخر. قال: وجاء جبريل فقال: يا محمد! قل. قال: (ما أقول؟) قال: قل: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق و ذرأ و برأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن!)، فطفئت نار الشيطان، وهزمهم الله عز و جل.فالغرض من الدعاء هنا، هو الاستعاذة بالله تبارك وتعالى من شر شياطين الجن، ثم خصص النص كل طائفة من الشياطين، فمنهم من ينزل من السماء، ومنهم من يعرج فيها، ومنهم من ذرأ في الأرض، ومنهم من يخرج منها. إذن يوجد من شياطين الجن من يقيمون في الأرض، ويخرجون منها لإيذاء الناس، وأخبرتنا النصوص عن فريق منهم وهم قوم "يأجوج ومأجوج".
جمع زبر الحديد: من المؤكد أن "يأجوج ومأجوج" مع فرط قوتهم، لن يعجزوا عن نقب مكوناته، ولو بعد طول زمن، خاصة وأنه يتخللها فراغات وفجوات من السهل أن تضعف من تماسكها مع مرور الزمن. بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم (فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج) وعقد بيديه عشرة. فهم استطاعوا فتح الردم رغم كل ما قام به "ذو القرنين"، وهذا لا يمنع أن يتوكل على الله فيأخذ بالأسباب، ثم يفوض الأمر لله تعالى فهو كفيل بهم قال تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98].
وبسبب حسن توكل "ذو القرنين" على الله، وأخذ بالأسباب، فإن الله يعيد السد أشد ما كان كلما فتحوه، رغم أن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كل يوم، حتى كادوا يرون شعاع الشمس، فمن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح الجامع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله أن يبعثهم على الناس حضروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله، واستثنوا، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، ...).
لذلك كان لابد من معالجة تلك الصخور بطريقة تكسبها صلابة، وتسد ما بينها من فجوات وفراغات، ولأن الله آتى سليمان عليه السلام علما عز وجوده في زمانه، فقد أسال له عين القطر أو النحاس المذاب، وورث من علم أبيه داود عليه السلام، إلانة وتطويع الحديد، فقد كان لديه من العلم ما يستطيع به تطويع المعادن وسبكها. وسوف نتعرف كيف استفاد من هذا العلم في إحكام غلق الردم على "يأجوج ومأجوج".
أمر ذو القرنين القوم أن يأتوه بزبر الحديد، قال تعالى: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)، وهذا يدل على أن خام الحديد لم يكن متاحا له، على خلاف القطر فقد تكفل بإفراغه ولم يطلب منهم أن يوفروه له.
وفي لسان العرب: (وزبرة الحديد: القطعة الضخمة منه، والجمع زبر. قال تعالى (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ... الزبرة القطعة من الحديد، والجمع زبر).
وزبر الحديد المستخدمة في تأسيس السد هي عبارة عن قطع من حجارة الحديد الخام، المتوفرة بنسب ضئيلة جدا غير متحد بعناصر أخرى إلا من بعض الشوائب، إلا أن مركباته واسعة الانتشار في التربة والصخور بنسب متفاوتة، وقطع الحديد هي ما تسمى علميا باسم "الحجارة النيزكية Meteorite"، والتي كانت المصدر الرئيسي للحصول على معدن الحديد في ذاك الزمان، حيث لم يعرف بعد استخراج الحديد من المناجم.
زبر الحديد أو (الحجارة النيزكية Meteorite)
استخدم المصريون الحديد النيزكي، فهم أوائل من استخدمه، حيث عثر على أدوات مصنعة منه ترجع إلى حوالي عام 3500 قبل الميلاد. وبناءا عليه لم يعرف بعد صهر الحديد وسباكته ليتم سحبه وتشكيله على هيئة قضبان أو كتلا ضخمة منه، إنما كانوا يجمعون تلك الحجارة النيزيكية من الصحراء حولهم.
عرف الإنسان الحديد منذ القدم، يجمع كحجارة صلبة من على سطح الأرض، حيث كانت تهبط من السماء فيما يعرف بالحديد النيزكي. لذلك تم تقديسه ويسميه معدن السماء أو معدن الآلهة، وفي نيجيريا على سبيل المثال عرفوا عبادة الإله أوغن Ogun إله الحديد، وهو خلاف الإله أوغون Ogoun إله الحرب والنار لدى الهنود الحمر. ولم يعرف الإنسان الحديد مصهورا إلا عن طريق الحمم البركانية، وما تخرجه البراكين من معادن مختلفة مصهورة ومختلطة منها الحديد. وعلى هذا فقد كان الحديد يحتوي على قدر كبير من الشوائب، هذا بخلاف أن الحديد وحده يعد عنصر لين إن لم يسبك مع معدن آخر يكسبه صلابة وقوة، لذلك كان صهر الحديد والمعادن يحتاج إلى نار حامية تنقيته من الشوائب، والوصول بالنار على درجة حرارة عالية هو ما لم يتوفر قبل عهد داود وسليمان عليهما السلام.
ومن الواضح أنه استخدم كمية هائلة من زبر الحديد، هذا إذا عرفنا أن الصدف كل شيء مرتفع عظيم كالهدف والحائط والجبل. حيث ارتفع بحجارة الحديد حتى ساوى بين جانبي قاعدة السد قال تعالى: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)، أي ساوى بين الصدفين بحجارة الحديد. وغزارة كمية الحديد كانت تطلب ولا شك عدد غفيرا من القوة البشرية، وهذا شاهد على قوة هؤلاء القوم وغزارة عددهم حين ذاك، قال تعالى: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)، وهذا يدل على أن المقصود بالقوة هنا هي القوة البشرية، وكناية وكثرة عدد الأفراد المشاركين في جمع زبر الحديد، وكذلك القوة المالية نظير ما يقدم من أجور لهم على عملهم هذا.
ومصدر الحديد هو الحجارة التي تكونت في الفضاء الخارجي وارتطم بسطح الكرة الأرضية ويطلق عليه اسم "الحجر